كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل {لِذِكْرِى} لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها، أو لأن أذكرك بالثناء، أو {لِذِكْرِى} خاصة لا ترائي بها ولا تشوبها بذكر غيري. وقيل لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة أو لذكر صلاتي. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال «من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها إن الله تعالى يقول أقم الصلاة لذكري» {إِنَّ الساعة ءاتِيَةٌ} كائنة لا محالة. {أَكَادُ أُخْفِيهَا} أريد إخفاء وقتها، أو أقرب أن أخفيها فلا أقول إنها آتية ولولا ما في الأخبار بإتيانها من اللطف وقطع الأعذار لما أخبرت به، أو أكاد أظهرها من أخفاه إذا سلب خفاءه، ويؤيده القراءة بالفتح من خفاه إذا أظهره. {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} متعلق ب {ءَاتِيَةٌ} أو ب {أُخْفِيهَا} على المعنى الأخير.
{فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} عن تصديق الساعة، أو عن الصلاة. {مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا} نهي الكافر أن يصد موسى عليه الصلاة والسلام عنها، والمراد نهيه أن يصد عنها كقولهم: لا أرينك ها هنا، تنبيهًا على أَن فطرته السليمة لو خليت بحالها لاختارها ولم يعرض عنها، وأنه ينبغي أن يكون راسخًا في دينه فإن صد الكافر إنما يكون بسبب ضعفه فيه. {واتبع هَوَاهُ} ميل نفسه إلى اللذات المحسوسة المخدجة فقصر نظره عن غيرها. {فتردى} فتهلك بالانصداد بصده.
{وَمَا تِلْكَ} استفهام يتضمن استيقاظًا لما يريه فيها من العجائب. {بِيَمِينِكَ} حال من معنى الإِشارة، وقيل صلة {تِلْكَ}. {يَا موسى} تكرير لزيادة الاستئناس والتنبيه.
{قَالَ هِىَ عَصَايَ} وقرئ {عصي} على لغة هذيل. {أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيْهَا} أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع. {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِى} وأخبط الورق بها على رؤوس غنمي، وقرئ {أهش} وكلاهما من هش الخبز يهش إذا انكسر لهشاشته، وقرئ بالسين من الهس وهو زجر الغنم أي أنحى عليها زاجرًا لها. {وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أخرى} حاجات أخر مثل أن كان إذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته، وعرض الزندين على شعبيتها وألقى عليها الكساء واستظل به، وإذا قصر الرشاء وصله بها، وإذا تعرضت السباع لغنمه قاتل بها، وكأنه صلى الله عليه وسلم فهم أن المقصود من السؤال أن يذكر حقيقتها وما يرى من منافعها، حتى إذا رآها بعد ذلك على خلاف تلك الحقيقة ووجد منها خصائص أخرى خارقة للعادة مثل أن تشتعل شعبتاه بالليل كالشمع، وتصيران دلوًا عند الاستقاء، وتطول بطول البئر وتحارب عنه إذا ظهر عدو، وينبع الماء بركزها، وينضب بنزعها وتورق وتثمر إذا اشتهى ثمرة فركزها، على أن ذلك آيات باهرة ومعجزات قاهرة أحدثها الله فيها لأجله وليست من خواصها، فذكر حقيقتها ومنافعها مفصلًا ومجملًا على معنى أنها من جنس العصي تنفع منافع أمثالها ليطابق جوابه الغرض الذي فهمه.
{قَالَ أَلْقِهَا ياموسى فألقاها فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى} قيل لما ألقاها انقلبت حية صفراء بغلظ العصا ثم تورمت وعظمت فلذلك سماها جانًا تارة نظرًا إلى المبدأ وثعبانًا مرة باعتبار المنتهى، وحية أخرى باعتبار الاسم الذي يعم الحالين. وقيل كانت في ضخامة الثعبان وجلادة الجان ولذلك قال: {كَأَنَّهَا جَآنٌّ}.
{قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ} فإنه لما رآها حية تسرع وتبتلع الحجر والشجر خاف وهرب منها. {سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} هيئتها وحالتها المتقدمة، وهي فعلة من السير تجوز بها للطريقة والهيئة وانتصابها على نزع الخافض أو على أن أعاد منقول من عاده بمعنى عاد إليه، أو على الظرف أي سنعيدها في طريقتها أو على تقدير فعلها أي سنعيد العصا بعد ذهابها تسير سيرتها الأولى فتنتفع بها ما كنت تنتفع قبل. قيل لما قال له ربه ذلك اطمأنت نفسه حتى أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها.
{واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} إلى جنبك تحت العضد يقال لكل ناحيتين جناحان كجناحي العسكر، استعارة من جناحي الطائر سميا بذلك لأنه يجنحهما عند الطيران. {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} كأنها مشعة. {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} من غير عاهة وقبح، كني به عن البرص كما كنى بالسوأة عن العورة لأن الطباع تعافه وتنفر عنه. {ءَايَةً أخرى} معجزة ثانية وهي حال من ضمير {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} أو من ضميرها، أو مفعول بإضمار خذ أو دونك.
{لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتنا الكبرى} متعلق بهذا المضمر أو بما دل عليه آية أو القصة التي دللنا بها، أو فعلنا ذلك {لِنُرِيَكَ} و{الكبرى} صفة {ءاياتنا} أو مفعول {نريك} و{مِنْ ءاياتنا} حال منها.
{اذهب إلى فِرْعَوْنَ} بهاتين الآيتين وادعه إلى العبادة. {إِنَّهُ طغى} عصى وتكبر.
{قَالَ رَبِّ اشرح لِى صَدْرِى وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى} لما أمره الله بخطب عظيم وأمر جسيم سأله أن يشرح صدره ويفسح قلبه لتحمل أعبائه والصبر على مشاقه، والتلقي لما ينزل عليه ويسهل الأمر له بإحداث الأسباب ورفع الموانع، وفائدة لي إبهام المشروح والميسر أولًا، ثم رفعه بذكر الصدر والأمر تأكيدًا ومبالغة.
{واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى يَفْقَهُواْ قَوْلِي} فإنما يحسن التبليغ من البليغ وكان في لسانه رتة من جمرة أدخلها فاه، وذلك أن فرعون حمله يومًا فأخذ بلحيته ونتفها، فغضب وأمر بقتله فقالت آسية: إنه صبي لا يفرق بين الجمر والياقوت، فأحضرا بين يديه فأخذ الجمرة ووضعها في فيه. ولعل تبييض يده كان لذلك. وقيل احترقت يده فاجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ، ثم لما دعاه قال إلى أي رب تدعوني قال إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنه. واختلف في زوال العقدة بكمالها فمن قال به تمسك بقوله: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} ومن لم يقل احتج بقوله: {هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَانًا} وقوله: {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} وأجاب عن الأول بأنه لم يسأل حل عقدة لسانه مطلقًا بل عقدة تمنع الإِفهام ولذلك نكرها وجعل يفقهوا جواب الأمر، ومن لساني يحتمل أن يكون صفة عقدة وأن يكون صلة احلل.
{واجعل لِّّى وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِى هارون أَخِى} يعينني على ما كلفتني به، واشتقاق الوزير إما من الوزير لأنه يحمل الثقل عن أميره، أو من الوزر وهو الملجأ لأن الأمير يعتصم برأيه ويلتجىء إليه في أموره، ومنه الموازرة وقيل أصله أزير من الأزر بمعنى القوة، فعيل بمعنى مفاعل كالعشير والجليس قلبت همزته واوًا كقلبها في موازر. ومفعولًا اجعل وزيرًا، و{هارون} قدم ثانيهما للعناية به و{لِى} صلة أو حال أو {لّى وَزِيرًا} و{هارون} عطف بيان للوزير، أو {وَزِيرًا مّنْ أَهْلِى} و{لِى} تبيين كقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}. و{أَخِى} على الوجوه بدل من {هارون} أو مبتدأ خبره.
{اشدد بِهِ أَزْرِى وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِى} على لفظ الأمر وقرأهما ابن عامر بلفظ الخبر على أنهما جواب الأمر.
{كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} فإن التعاون يهيج الرغبات ويؤدي إلى تكاثر الخير وتزايده.
{إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا} عالمًا بأحوالنا وأن التعاون مما يصلحنا، وأن هرون نعم المعين لي فيما أمرتني به.
{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} أي مسؤولك، فعل بمعنى مفعول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول.
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى} أي أنعمنا عليك في وقت آخر.
{إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمِّكَ} بإلهام أو في منام أو على لسان نبي في وقتها أو ملك لا على وجه النبوة كما أوحي إلى مريم.
{مَا يوحى} ما لا يعلم إلا بالوحي، أو مما ينبغي أن يوحى ولا يخل به لعظم شأنه وفرط الاهتمام به.
{أَنِ اقذفيه في التابوت} بأن اقذفيه، أو أي اقذفيه لأن الوحي بمعنى القول. {فاقذفيه في اليم} والقذف يقال للإِلقاء وللوضع كقوله تعالى: {وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرعب} وكذلك الرمي كقوله:
غُلاَمٌ رَمَاهُ الله بِالحُسْنِ يَافِعًا

{فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} لما كان إلقاء البحر إياه إلى الساحل أمرًا واجب الحصول لتعلق الإِرادة به، وجعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمره بذلك وأخرج الجواب مخرج الأمر، والأولى أن تجعل الضمائر كلها لموسى مراعاة للنظم، فالمقذوف في البحر والملقى إلى الساحل وإن كان التابوت بالذات فموسى بالعرض. {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ} جواب {فَلْيُلْقِهِ} وتكرير {عَدُوٌّ} للمبالغة، أو لأن الأول باعتبار الواقع والثاني باعتبار المتوقع. قيل إنها جعلت في التابوت قطنًا ووضعته فيه ثم قبرته وألقته في اليم، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر فدفعه الماء إليه فأداه إلى بركة في البستان، وكان فرعون جالسًا على رأسها مع امرأته آسية بنت مزاحم، فأمر به فأخرج ففتح فإذا هو صبي أصبح الناس وجهًا فأحبه حبًا شديدًا كما قال سبحانه وتعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى} أي محبة كائنة مني قد زرعتها في القلوب بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك فلذلك أحبك فرعون، ويجوز أن يتعلق {مِنّي} ب {ألقيت} أي أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب، وظاهر اللفظ أن اليم ألقاه بساحله وهو شاطئه لأن الماء يسحله فالتقط منه، لكن لا يبعد أن يؤول الساحل بجنب فوهة نهره. {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى} لتربى ويحسن إليك وأنا راعيك وراقبك، والعطف على علة مضمرة مثل ليتعطف عليك، أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلل مثل فعلت ذلك. وقرئ {وَلِتُصْنَعْ} بكسر اللام وسكونها والجزم على أنه أمر {وَلِتُصْنَعَ} بالنصب وفتح التاء أي وليكن عملك على عين مني لئلا تخالف به عن أمري.
{إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ} ظرف ل {ألقيت} أو {لتصنع} أو بدل من {إِذْ أَوْحَيْنَا} على أن المراد بها وقت متسع. {فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ} وذلك لأنه كان لا يقبل ثدي المراضع، فجاءت أخته مريم متفحصة خبره فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها فقالت {هَلْ أَدُلُّكُمْ} فجاءت بأمه فقبل ثديها. {فرجعناك إلى أُمِّكَ} وفاء بقولنا {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} {كَى تَقَرَّ عَيْنُها} بلقائك. {وَلاَ تَحْزَنْ} هي بفراقك أو أنت على فراقها وفقد إشفاقها. {وَقَتَلْتَ نَفْسًا} نفس القبطي الذي استغاثه عليه الإِسرائيلي. {فنجيناك مِنَ الغم} غم قتله خوفًا من عقاب الله تعالى واقتصاص فرعون بالمغفرة والأمن منه بالهجرة إلى مدين. {وفتناك فُتُونًا} وابتليناك ابتلاء، أو أنواعًا من الابتلاء على أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز وبدور في حجزة وبدرة، فخلصناك مرة بعد أخرى وهو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقة الألاّف، والمشي راجلًا على حذر وفقد الزاد وأجر نفسه إلى غير ذلك أوله ولما سبق ذكره. {فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ} لبثت فيهم عشر سنين قضاء لأوفى الأجلين، ومدين على ثمان مراحل من مصر. {ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ} قدرته لأن أكلمك وأستنبئك غير مستقدم وقته المعين ولا مستأخر، أو على مقدار من السن يوحى فيه إلى الأنبياء. {يَا موسى} كرره عقيب ما هو غاية الحكاية للتنبيه على ذلك.
{واصطنعتك لِنَفْسِى} واصطفيتك لمحبتي مثله فيما خوله من الكرامة بمن قربه الملك واستخلصه لنفسه.
{اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بئاياتى} بمعجزاتي. {وَلاَ تَنِيَا} ولا تفترا ولا تقصرا، وقرئ {تِنيَا} بكسر التاء. {فِى ذِكْرِي} لا تنسياني حيثما تقلبتما. وقيل في تبليغ ذكري والدعاء إليَّ.
{اذهبا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} أمر به أولًا موسى عليه الصلاة والسلام وحده وهاهنا إياه وأخاه فلا تكرير. قيل أوحى إلى هرون أن يتلقى موسى. وقيل سمع بمقبله فاستقبله.
{فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا} مثل {هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ فتخشى} فإنه دعوة في صورة عرض ومشورة حذرًا أن تحمله الحماقة على أن يسطو عليكما؛ أو احترامًا لما له من حق التربية عليك. وقيل كنياه وكان له ثلاث كنى: أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة. وقيل عداه شبابًا لا يهرم بعده وملكًا لا يزول إلا بالموت. {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} متعلق ب {اذهبا} أو {قولا} أي: باشرا الأمر على رجائكما. وطمعكما أنه يثمر ولا يخيب سعيكما، فإن الراجي مجتهد والآيس متكلف، والفائدة في إرسالهما والمبالغة عليهما في الاجتهاد مع علمه بأنه لا يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات والتذكر للمتحقق والخشية للمتوهم، ولذلك قدم الأول أي إن لم يتحقق صدقكما ولم يتذكر فلا أقل من أن يتوهمه فيخشى.
{قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا} أن يعجل علينا بالعقوبة ولا يصبر إلى تمام الدعوة وإظهار المعجزة، من فرط إذا تقدم ومنه الفارط وفرس فرط يسبق الخيل. وقرئ {يَفْرُطَ} من أفرطته إذا حملته على العجلة، أي نخاف أن يحمله حامل من استكبار أو خوف على الملك أو شيطان إنسي أو جني على المعالجة بالعقاب، و{يَفْرُطَ} من الإِفراط في الأذية. {أَوْ أَن يطغى} أو أن يزداد طغيانًا فيتخطى إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي لجراءته وقساوته وإطلاقه من حسن الأدب.
{قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا} بالحفظ والنصر. {أَسْمَعُ وأرى} ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل، فأحدث في كل ما يصرف شره عنكما ويوجب نصرتي لكما، ويجوز أن لا يقدر شيء على معنى إنني حافظكما سامعًا ومبصرًا، والحافظ إذا كان قادرًا سميعًا بصيرًا تم الحفظ.
{فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل} أطلقهم. {وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ} بالتكاليف الصعبة وقتل الولدان، فإنهم كانوا في أيدي القبط يستخدمونهم ويتعبونهم في العمل ويقتلون ذكور أولادهم في عام دون عام، وتعقيب الإِتيان بذلك دليل على أن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإِيمان، ويجوز أن يكون للتدريج في الدعوة. {قَدْ جئناك بِئَايَةٍ مِّن رَّبِّكَ} جملة مقررة لما تضمنه الكلام السابق من دعوى الرسالة، وإنما وحد الآية وكان معه آيتان لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها لا الإِشارة إلى وحدة الحجة وتعددها، وكذلك قوله: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ} {فائت بِئَايَةٍ} {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ} {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} وسلام الملائكة وخزنة الجنة على المهتدين، أو السلامة في الدارين لهم.
{إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى} أن عذاب المنزلين على المكذبين للرسل، ولعل تغيير النظم والتصريح بالوعيد والتوكيد فيه لأن التهديد في أول الأمر أهم وأنجع وبالواقع أليق.
{قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} أن بعد ما أتياه وقالا له ما أمرا به، ولعله حذف لدلالة الحال عليه فإن المطيع إذا أمر بشيء فعله لا محالة، وإنما خاطب الإِثنين وخص موسى عليه الصلاة والسلام بالنداء لأنه الأصل وهرون وزيره وتابعه، أو لأنه عرف أن له رتة ولأخيه فصاحة فأراد أن يفحمه ويدل عليه قوله: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هذا الذى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ}.
{قَالَ رَبُّنَا الذى أعطى كُلَّ شَيءٍ} من الأنواع {خَلْقَهُ} صورته وشكله الذي يطابق كماله الممكن له، أو أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، فقدم المفعول الثاني لأنه المقصود بيانه. وقيل أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة زوجًا. وقرئ {خَلَقَهُ} صفة للمضاف إليه أو المضاف على شذوذ فيكون المفعول الثاني محذوفًا أي: أعطى كل مخلوق ما يصلحه. {ثُمَّ هدى} ثم عرفه كيف يرتفق بما أعطي وكيف يتوصل به إلى بقائه وكماله اختيارًا أو طبعًا، وهو جواب في غاية البلاغة لاختصاره وإعرابه عن الموجودات بأسرها على مراتبها، ودلالته على أن الغني القادر بالذات المنعم على الإِطلاق هو الله تعالى وأن جميع ما عداه مفتقر إليه منعم عليه في حد ذاته وصفاته وأفعاله، ولذلك بهت الذي كفر وأفحم عن الدخل عليه فلم ير إِلاَّ صَرْفَ الكلام عنه.
{قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى} فما حالهم بعد موتهم من السعادة والشقاوة.
{قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى} أي هو غيب لا يعلمه إلا هو وإنما أنا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به. {فِى كتاب} مثبت في اللوح المحفوظ، ويجوز أن يكون تمثيلًا لتمكنه في علمه بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة ويؤيده. {لاَّ يَضِلُّ رَبِّى وَلاَ يَنسَى} والضلال أن تخطىء الشيء في مكانه فلم تهتد إليه، والنسيان أن تذهب عنه بحيث لا يخطر ببالك، وهما محالان على العالم بالذات، ويجوز أن يكون سؤاله دخلًا على إحاطة قدرة الله تعالى بالأشياء كلها وتخصيصه ابعاضها بالصور والخواص المختلفة، بأن ذلك يستدعي علمه بتفاصيل الأشياء وجزئياتها، والقرون الخالية مع كثرتهم وتمادي مدتهم وتباعد أطرافهم كيف أحاط علمه بهم وبأجزائهم وأحوالهم فيكون معنى الجواب: أن علمه تعالى محيط بذلك كله وأنه مثبت عنده لا يضل ولا ينسى.
{الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا} مرفوع صفة ل {رَبّى} أو خبر لمحذوف أو منصوب على المدح. وقرأ الكوفيون هنا وفي الزخرف {مهدًا} أي كالمهد تتمدونها، وهو مصدر سمي به، والباقون مهادًا وهو اسم ما يمهد كالفراش أو جمع مهد ولم يختلفوا في الذي في النبأ. {وَسَلَكَ لَكُمْ سُبُلًا} وجعل لكم فيها سبلًا بين الجبال والأودية والبراري تسلكونها من أرض إلى أرض لتبلغوا منافعها. {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً} مطرًا. {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} عدل به عن لفظ الغيبة إلى صيغة التكلم على الحكاية لكلام الله تعالى، تنبيهًا على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة وإيذانًا بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لمشيئته، وعلى هذا نظائره كقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} {أَم مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ} الآية. {أزواجا} أصنافًا سميت بذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض. {مّن نبات} بيان أو صفة لأزواجًا وكذلك: {شتى} ويحتمل أن يكون صفة ل {نَبَاتُ} فإنه من حيث إنه مصدر في الأصل يستوي فيه الواحد والجمع، وهو جمع شتيت كمريض ومرضى أي متفرقات في الصور والأغراض والمنافع يصلح بعضها للناس وبعضها للبهائم فلذلك قال: {كُلُواْ وارعوا أنعامكم} وهو حال من ضمير {فَأَخْرَجْنَا} على إرادة القول أي أخرجنا أصناف النبات قائلين {كُلُواْ وارعوا}، والمعنى معديهما لانتفاعكم بالأكل والعلف آذنين فيه. {إِنَّ في ذلك لأيات لأُوْلِى النهى} لذوي العقول الناهية عن اتباع الباطل وارتكاب القبائح جمع نهية.
{مِنْهَا خلقناكم} فإن التراب أصل خلقة أول آبائكم وأول مواد أبدانكم. {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} بالموت وتفكيك الأجزاء. {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} بتأليف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب على الصور السابقة ورد الأرواح إليها. اهـ.